الجمعة، 25 مارس 2016

التطور التاريخي للفكر الجيومورفولوجي
بذور الفكر الجيومورفولوجي
برزت بذور علم الجيومورفولوجيا من خلال مجموعة أسئلة، أثيرت بداية من قبل الفلاسفة اليونان والرومان، منها على سبيل المثال، كيف نشأت الجبال؟، كيف تشكّل المشهد الطبيعي لسطح الأرض؟. ناقش كل من أرسطو وهيروديت وسترابو وسينكا وكزينوفانيس وغيرهم، مجموعة من المواضيع كأصل الأنهار، تشكّل الدلتاوات النهرية والأسباب التي أدت إلى وجود الأصداف البحرية بأعلى القمم الجبلية. الفيلسوف والشاعر اليوناني كزينوفانيس Xenophanes ( ق.م570- 480 ق.م) الذي تكهن بأن وجود الأصداف البحرية على قمم الجبال يدل على ارتفاع وانخفاض الجبال. أعتقد هيرودوت Herodotus (484ق.م- 420ق.م) أن الجزء السفلي من مصر كان في السابق خليج بحري، وله القول المشهور "مصر هبة النيل" في إشارة منه إلى تراكم الطمي عام بعد عام في دلتا نهر النيل، أدى إلى خصوبة الأراضي الزراعية واستقرار السكان. خمن أرسطو Aristotle (384ق.م- 322ق.م) على التغيّر المتتالي بين الأراضي القارية وتلك البحرية، حيث أوضح أن الأراضي الجافة حالياً كانت في السابق جزء من البحر. لاحظ سترابو Strabo (63ق.م- 23م ؟) بأن حجم الدلتا مرتبط بكل من حجم الحوض النهري والضعف الصخري بالحوض. أشار سترابو إلى خسوف وارتفاع سطح الأرض. وضّح سينكا Seneca (4ق.م- 65م) قدرة الأنهار على تآكل الأودية . بمرور ألف عام، ظهر العالم ابن سينا (980م- 1037م) وناقش تعرية الجبال، حيث أكد على دور المياه والرياح والضعف الصخري في التعرية التفاضلية differential erosion بالجبال، إضافة إلى ترجمته لكتابات أرسطو.

شكل (  ): أهم الفلاسفة والعلماء ممن أشاروا في كتاباتهم لبعض الأفكار الجيومورفولوجية، وهم من اليمين إلى اليسار، كزينوفانيس، سنكا، هيروديت، سترابو، أرسطو وابن سينا.

 

وخلال عصر النهضة، برز الفنان والنحات والعالم ليونارد دافينشي Leonardo da Vinci (1452م-1519م) حيث برر وجود الأحافير والأصداف البحرية بالجبال كدليل على تغيّر مستوى البحر، مؤكداً أن قوة الجريان المائي هي التي عملت على حفر المجرى ونقل الرواسب الفيضية من مكان لآخر. أشار جيوفاني توزيتي Giovanni Tozzetti (1712- 1784م)، وهو من أبرز علماء القرن الثامن عشر، إلى دور التيار المائي في التعرية. برغم الرصيد المتراكم من الأفكار العلمية، إلا أن تلك الأفكار لم يتم وضعها ضمن إطار علمي، متكامل منطقياً، تؤسس لاتجاه علمي متخصص.
عرض جيمس هاتون James Hutton (1726- 1797) في عام 1785م، ورقة علمية أمام الجمعية الملكية بأدنبره، وناقش فكرته التي يرى فيها أن سطح الأرض تشكل ضمن عمليات بطيئة، وأن لتأثير المياه دور فعّال في تشكل سطح الأرض، ورافضاً لفكرة تشكل سطح الأرض بفعل الحوادث الكارثية كما أدعى العلماء التوراتيين، وبدأت افكاره تنتشر ببطء حتى عام 1802م. بعد خمس سنوات من وفاة هاتون، أعاد صديقة وأستاذ الرياضيات جون بلايفير John Playfair صياغة النظرية الهاتونية Huttonian Theory بشكل علمي، وضمن رسومات توضيحية. ومن خلال حسابات مفصلة وتوضيحية لنشأة الأرض، ومع التركيز على العلاقة بين الأنهار rivers والأودية valleys: "يبدو أن كل نهر يتكون من جذع رئيسي main trunk، يتغذى على مجموعة متنوعة من الفروع، وكل منهما يتخذ واد يتناسب وحجمه، ليشكلوا معاً نظام الأودية، ويتم الاتصال فيما بينهم من خلال التعديل اللطيف للمنحدر، وصولاً للمجرى الرئيسي. ولا يمكن الاتصال فيما بينهم أو الوصول إلى المجرى الرئيسي ما لم تعمل قوة التيار بالمجاري المائية من تعرية الأودية". تعتبر منهجية هاتون التي تأسست على الاعتقاد بأن العمليات البطيئة والمستمرة ما زالت تعمل ويمكن ملاحظتها حتى اليوم " slow but continuous operation of processes observable at the present day" وفرت أساساً كافياً لشرح التشكيل الحالي لسطح الأرض. تناول تشارلز لايل Charles Lyell بالبحث عن فكرة هاتون عن الاتساق uniformity وقام بتطويرها. ومن خلال عمله العلمي والمؤثر "مبادئ الجيولوجيا Principles of Geology" (1830-1833)، اصبح لتشارلز لايل شأن علمي مرموق، خاصة بعد توضيحه لمبدأ الاتساقية uniformitarianism، وهو مفهوم لخصه في عبارة موجزة "الحاضر مفتاح الماضي the present is the key to the past". بالرغم من التقدير الذي أكتسبه ليل من قبل علماء الأرض لفكرة الاتساق، إلا أنه أدى لكثير من الالتباس والتعقيد، مما أدى لتشويش كتابات الكثيرين من العلماء، خاصة عند التمييز بين المعاني المختلفة. في الواقع يمكننا تمييز معاني أربع لمبادئ تشارلز لايل:
1.    اتساق القانون Uniformity of law: وهي الفرضية التي ترى أن القوانين الطبيعية ثابتة ولا تتغير بتغير الزمان أو المكان.
2.  اتساق العملية :Uniformity of process وهو مقترح يؤكد على أن العمليات الطبيعية التي تتم حالياً قادرة على توضيح آلية تكوّن الظواهر الطبيعية المثيرة والموجودة على سطح الأرض، وهو مبدأ يعارض فيه التفسير التوراتي لأشكال سطح الأرض.
3.  اتساق المعدل Uniformity of rate: حيث يؤكد هذا المبدأ أن التغيّر الذي يصيب سطح الأرض هو تغيّر تدريجي وثابت وبطيء في الغالب، إلا أن لآيل أقر بأن هناك حوادث رئيسية حدثت في السابق، كالفيضانات والزلازل، إلا أنها ذات مدى محلي وحدثت في الماضي بنفس متوسط تردد حدوثها في الوقت الحاضر.
4.  اتساق الحالة Uniformity of state: يؤكد على أن تغيّر سطح الأرض أمر حتمي، إلا انه عديم الاتجاه. الحوادث المتعددة التي أدت إلى تغيّر سطح الأرض في الماضي، هي نفسها التي تعمل الأن، وهي الفكرة المركزية لدى لآيل في توضيحه لتعاقب دورات الأشكال الأرضية.

تشعب مفهوم الاتساق والمناقشات الحادة، بل والرفض من الآخرين، مما أدى لتشويش المفهوم، وقوبل بالرفض من قبل الجيولوجيين المؤيدين لأفكار الكتاب المقدس، خاصة فكرة التغيّر الفجائي لسطح الأرض، ورافضين لمفهوم الاتساق، وبشكل أساسي اتساق المعدل واتساق الحالة، ومتعللين بحجة صحة التفسير التوراتي، وما أورده بشأن الفيضان العظيم، ودليلهم في ذلك مكونات السطح بشمال أوروبا، حيث تنتشر الرواسب الرملية والحطام الصخري في كل من قمم التلال والسهول. بالرغم من خفوت أصوات مؤيدي التفسير التوراتي من الجيومورفولوجيين، إلا أن النقاش لازال يدور حول عدم اقتناع الكثيرين بفكرة اتساق المعدل واتساق الحالة، والعلاقة بين تغير كثافة العمليات والوقت، حيث يتمحور الخلاف الأساسي حول الأهمية النسبية لتردد العمليات الطبيعية العظمى (النادر حدوثها في الوقت الحالي!) وذات التأثير الفعّال في تشكّل سطح الأرض الحالي.
الجيومورفولوجيا الأمريكية
          بما أن أوروبا وضعت أسس الدراسة العلمية للأشكال الأرضية منذ النصف الأول للقرن التاسع عشر، فإنها أسهمت في تشييد البنية المفاهيمية لعلم حديث في النصف الثاني من القرن التاسع عشر من قِبل مجموعة من علماء الجيولوجيا الأمريكيين المثابرين بقيادة جون ويسلي باول John Wesley Powell وجروف كارل جلبرت Grove Karl Gilbert، وبشكل خاص، من خلال دراساتهم الحقلية للأشكال الأرضية بمناطق الغرب الأمريكي شبه الجاف، مستغلين الأشكال الأرضية العارية من غطاء نباتي وتربة، حيث كان لدى باول المقدرة على وضع إطار تصنيفي هيكلي نشوئي للجبال، إضافة لتصنيفه للأودية وشبكات المجارية المائية. تعتبر فكرة العلاقة بين حدود التعرية ومستوى القاعدة وتطور الأشكال الأرضية من أهم المفاهيم المركزية التي صاغها باول، مؤكداً، لا يمكن للأنهار من القيام بالتعرية دون مستوى القاعدة.
          تطورت البحوث اللاحقة في مجال الأشكال الأرضية، وأهمها البحوث الرائدة لجلبرت، حيث يعتبر أول من وضع أسس التحليل المنهجي للتفاعل المتبادل بين قوى التعرية وقوى المقاومة التي تبديها التكوينات الصخرية والرواسب السطحية، ومؤسسة لسلسلة من نتائج قوانين تطور اللاندسكيب والتي استندت على مفهوم جلبرت عن التوازن الديناميكي dynamic equilibrium، وقدمها ضمن كتابه الكلاسيكي "تقرير عن جيولوجيا جبال هنري Report on the Geology of the Henry Mountains"، ثم مواصلته في تطوير المعالجة الكمية للعمليات الفيضية ونشرت عام 1914م. وفي حين أكد جلبرت على علاقة التعديل بين الأشكال والعمليات الحالية، برز رفيقه ومعاصره وليم مورس ديفيز William Morris Davis المؤسس للمدرسة الجيومورفولوجية على أساس التقدم الممنهج لتغيّر الأشكال الأرضية من خلال الزمن، والذي يبدأ بعملية رفع سريعة لسطح الأرض، ليطلق على هذا التسلسل التطوري وصف دورة التعرية cycle of erosion ويعطي لكل مرحلة من مراحل الدورة مسمى عمري شبيه بمسمى مراحل حياة الإنسان (مرحلة الطفولة، مرحلة الشباب، مرحلة النضج أو الشيخوخة)، ولاحقاً، قام طلاب ديفيس وغيرهم من الباحثين، يدفعهم الحماس، بتطبيقها في الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة، إلا أنها رفضت من أغلب الجيومورفولوجيين الأوروبيين، واعتبروها نموذج مفرط في المثالية، إضافة لعدم إيلاء العامل المناخي بنموذج دورة التعرية دور يذكر، والتقليل من أهميته في التأثير على تطور الأشكال الأرضية. بالرغم من التحدي الأوربي لدورة التعرية، إلا أن جُل النقد تم توجيهه من فالتر بِنك، حيث جادل بأن لا يمكن للدورة أن تتقدم بعد عملية الرفع السريعة في مراحلها الأولى، إلا في ظل هدوء واستقرار للقشرة الأرضية خلال فترة دورتها، وهو ما لا يمكن حدوثه.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق